كيوم مشمس على دكّة الاحتياط | قصص

«كيوم مشمس على دكّة الاحتياط» (2022)

 

صَدَرَتْ عن دار «هاشيت أنطوان - نوفل» في بيروت، المجموعة القصصيّة «كيوم مشمس على دكّة الاحتياط» (2022)، للكاتب الفلسطينيّ مازن معروف.

وقد جاء في نبذة الكتاب: "كتاب واحد تجتمع فيه ذاكرة الحرب مع حاضرها ومستقبلها، أمّا أبطال القصص فمن الطفولة، لكنّهم يفكّرون كالكبار. يمكن قراءة كلّ قصّة من المجموعة لوحدها، ويمكن قراءة المجموعة كما لو أنّها قصّة واحدة ومتسلسلة. إذ تتوالى الأحداث بسرعة وتنتقل بسلاسة بين الفصول، ويبقى الخيال ركيزتها الأساسيّة".

تنشر  فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة  مقتطفًا من قصّة من المجموعة بالتعاون مع الناشر.

 


 

طلقات

أفلتَ منّي الدفتر في تلك اللحظة كأنّ يدًا ما اختطفته ورمته في الهواء إلى فوق. مددت يدي لألتقطه، فرأيت جسمًا صغيرًا يلمع متّجهًا صوبي مباشرة. كانت رصاصة. نازلة من السماء وسريعة كأنّها تنزلق على خيط موصول برأسي. وددت الالتفات صوب أمّي لإلقاء نظرة أخيرة عليها والتبسّم مثلًا. لكن لم يكن هنالك وقت لأرمش حتّى؛ فبالنظر إلى سرعة الرصاصة، مؤكّد أنّها ستخترق رأسي قبل خفقة قلبي التالية. حبست أنفاسي وأزحت بؤبؤيّ لأنظر على الأقلّ إلى شيء آخر. في تلك اللحظة... اللحظة الّتي كان يُفترض بالرصاصة فيها أن تخترق جمجمتي، اجتاحتني قشعريرة من رأسي إلى أخمصي قدميّ، لأسمع بعدها يدين تصفّقان مرّة واحدة. التَفَتُّ، لدهشتي، كانت سعيدة. "غبيّ!"، قالت: "كان يمكنك الانبطاح على الأرض". "الطلقة كانت سريعة جدًّا... لم أستطع"، قلت. "كان يمكنك تفاديها... فقد أتيح لك رؤيتها وهذه فرصة ذهبيّة لكنّك أخفقت". "آسف..."، قلت. "انظر"، قالت وهي تشدّني إلى الخلف. كنت لا أزال أنظر إليها.

استدرت إلى حيث أشارت بعينيها، فرأيت الرصاصة. كانت معلّقة في مكانها في الهواء ملّمترات عن رأسي. مدّت سعيدة يدها وقطفتها كما لو أنّها حبّة عنب ثمّ كدشتْ نصفها. "يممم... طعمها كالكراميل بملح البحر. لذيذة جدًّا. هل ذقتها من قبل؟". "لا"، قلت ولعابي يسيل، مضيفًا في تشوّش واضح: "لا أحد يأكل الرصاص... أنتِ تستخفّين بي". "هذا لأنّك لم تحاول. خذ... حاذر فهي ساخنة. قد تلسع سقف حلقك؛ فهي تذوب حين تضعها في فمك"، قالت وهي تناولني نصف الرصاصة الآخر.

أخذتها من دون أدنى تردّد كأنّني فعلت ذلك عشرات المرّات من قبل ووضعتها في فمي. كان طعمها لذيذًا بالفعل. اكتشفت زيادة عن ذلك أنّي أتضوّر جوعًا. "كلّ ما عليك فعله هو أن تصفّق بيديك مرّة واحدة مثلما فعلت... فتتوقّف الطلقات الناريّة مكانها في الهواء. نتناولها بأيدينا ونأكلها. ثلاث رصاصات تعادل وجبة طعام. تعال... سأعلّمك كيف تستشعر مكان الطلقة. كما أنّنا بأكلها ننقذ الأرواح. سيكون هذا على الأقلّ تكفيرًا لك عن كلّ أفعالك المُخجِلة بي...". "أنا فقط لم أكن أريد مغادرة الحيّ..."، قلتُ شاعرًا بالخجل. "لست مستاءة منك، فقد نقلتُ إليك تبوّلي اللاإراديّ». "تبوّلك اللاإراديّ؟". «نعم. ألم تصِرْ تتبوّل كلّما تخانقت مع أحد؟ لقد كان ذلك منصفًا على الأقلّ. والآن تعال معي، ألا تريد تذوّق المزيد من الرصاص؟"، قالت.

مشيت مع سعيدة مبتعدًا عن المكان. كانت أمّي لا تزال في الخلف، لكنّي لم ألتفت نحوها ولو بنظرة. الرغبة في أكل الرصاص سيطرت عليّ بالكامل.

أمضينا بقيّة اليوم نطارد الطلقات الناريّة. تذوّقنا رصاصًا بمختلف الأحجام والأنواع. رصاص بكر، أمشاط، مُرَوّس، مُدَبّب، 2.3 ملم، 5.7 ملم، 10.5 ملم، 6 ملم، 11.6 ملم، فرديّ، بوليسيّ، عسكريّ، متفجّر، مضادّ للدروع، رصاص قنص، أمريكيّ، ألمانيّ، إسبانيّ، سويديّ، إسرائيليّ، سويسريّ، صينيّ، روسيّ، من كلّ شيء. علّمتني سعيدة كيف ألتقط مسار الرصاصة بالسمع؛ فأنا الآن مثلها، أتمتّع بحاسّة سمع دقيقة وحادّة تفوق قدرة القبابيط. وبمجرّد أن نحدّد الموقع الّذي ستسقط فيه الرصاصة، نركض في الاتّجاه بأقصى سرعتنا. ربّما لسبعة أو عشرة أمتار قبل أن نجد أنفسنا تجسّدنا بغمضة عين على مقربة من الطلقة وأحيانًا تحتها مباشرة. تصفِّق سعيدة أو أنا مرّة واحدة؛ فتتوقف الطلقة في الهواء ونتقاسمها.

وجدت ذلك مسلّيًا. وبعد التهام خمس أو ستّ طلقات، أصبحت قادرًا على التحكّم بنكهتها. مثلما علّمتني سعيدة. نصفا طلقة يمكن أن يكونا بمذاقين مختلفين تمامًا. حسب ما تمنّى كلّ منّا أكله لحظتها. في المساء، رأتْني سعيدة أدسّ نصف طلقة في جيبتي. "ماذا تفعل؟"، سألتْني. أجبتها بأنّ جامعي السلاح سيذهبون إلى بيوتهم الآن، وأنا أفعل ذلك تحسّبًا، فربّما شعرنا بالجوع ليلًا. "لا تفكّر في الأمر. الناس هنا يطلقون النار حتّى عندما يريدون الاحتفال بشفائهم من إصابة برصاصة طائشة"، قالت وأخذنا نقهقه. لاحظت أنّ ضحكة سعيدة المعهودة اختفت. لكنْ هناك دائمًا طرف ابتسامة على وجهها، كما لو أنّها على وشك أن تقذفك بشيء مرير وساخر.

بقينا على هذه الحال أيّامًا. لا فكرة لدينا أين ستوصلنا الرصاصة التالية. كنّا جالسَيْن على أرضيّة أعلى عربة في دولاب الملاهي الضخم. أرجلنا تتدلّى من الباب المفتوح على ارتفاع سبعة وثلاثين مترًا، ظهرنا للبحر وبيروت أمامنا مجلّدة وضبابيّة كقطعة لحم ضخمة. قالت سعيدة: "هذا مملّ... لقد رأينا كلّ شيء". "نعم... مملّ"، ردّدت وراءها.

 "فلنأكل الطلقات بدءًا من الغد على مرأى ممّن قوّصها. سيكون هذا مسلّيًا أكثر...". "فكرة عظيمة!"، هتفت قائلًا. وهكذا، صرنا نأخذ الرصاصة إلى المكان اّلذي أُطْلِقَتْ منه، وعلى مرأى الشخص الّذي أطلقها نبدأ بمضغها. حدقات عيوننا النحاسيّة كانت تدبّ الذعر فيهم فيصيبهم مزيج من الحازوقة والاختناق. لكنّ هذا لم يقلّل من عدد مطلقي النار؛ فأيّ شيء كان يمكن أن يجعل الناس يقوِّصون عشوائيًّا. من بين الّذين مضغنا رصاصًا أمامهم صبيّ أطلق النار ابتهاجًا لظهوره في لقطة لـ «اليونيسف» على التلفزيون. كادت زائدته الدوديّة تنفجّر من الخوف.

 إحدى الطلقات خرجت من شبّاك غرفة مستشفى. مُطلِقها، في الستّينات من العمر، كان قد خرج للتوّ من غرفة العمليّات بجراحة في الرأس. ليثبت لأولاده أنّه بخير، أصرّ على إطلاق عيار واحد من مسدّس «كولت» من شبّاك غرفته في المستشفى وهو غير قادر بعد على أن يفتح عينيه. آخرون لم يكن لديهم سبب محدّد سوى أنّ الأمر جعلهم يشعرون بأنّهم أفضل حالًا. لكنّ هذا لم يكن كلّ شيء. بل إنّ الناس اعتادوا الأمر لدرجة أنّ بعضًا منهم طوّروا بطبيعة الحال، لغة مشفّرة بالرشق الناريّ للتواصل في ما بينهم. الهواتف لم تكن متوفّرة كثيرًا ولا الإنترنت. على هذا الأساس كان يمكن لشابّ أن يطلق رشقًا في الليل بطريقة محدّدة ليقول لفتاته "أحبّكِ"، أو "أرجوكِ أعطيني فرصة أخرى".

 


 

مازن معروف

 

 

 

قاصّ وشاعر ومترجم فلسطينيّ، وُلِدَ في بيروت عام 1978، وصدرت له عدّة مجموعات شعريّة وقصصيّة منها «نكات للمسلّحين»، «ملاك على حبل غسيل»، «كأنّ حزننا خبز».